فصل: ولاية الحجاج علي خراسان وسجستان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  مقتل ابن زياد

ولما فرغ المختار من قتال أهل الكوفة آخر سنة ست وستين بعث إبراهيم بن الأشتر لقتال ابن زياد وبعث معه وجوه أصحابه وفرسانهم وشيعته وأوصاه‏.‏ وبعث معه بالكرسي الذي كان يستنصر به وهو كرسي قد غشاه بالذهب‏.‏ وقال للشيعة هذا فيكم مثل التابوت في بني إسرائيل فكبر شأنه وعظم‏.‏ وقاتل ابن زياد فكان له الظهور وافتتن به الشيعة ويقال‏:‏ إنه كرسي علي بن أبي طالب وأن المختار أخذه من والد جعدة بن هبيرة وكانت أمه أم هانىء بنت أبي طالب فهو ابن أخت علي‏.‏ ثم أسرع إبراهيم بن الأشتر في السير وأوغل في أرض الموصل وكان ابن زياد قد ملكها كما مر‏.‏ فلما دخل إبراهيم أرض الموصل عبى أصحابه ولما بلغ نهر الحارم بعث على مقدمته الطفيل بن لقيط النخعي ونزل ابن زياد قريباً من النهر وكانت قيس مطبقة على بني مروان عند المرج وجند عبد الملك يومئذ فلقي عمير بن الحباب السلمي إبراهيم بن الأشتر وأوعده أن ينهزم بالمسيرة وأشار عليه بالمشاجرة‏.‏ ورأى عند ابن الأشتر ميلاً إلى المطاولة فثناه عن ذلك‏.‏ وقال‏:‏ إنهم ميلوا منكم رعباً وإن طاولتهم اجترؤوا عليكم‏.‏ قال وبذاك أوصاني صاحبي‏.‏ ثم عبى أصحابه في السحر الأول ونزل يمشي ويحرض الناس حتى أشرف على القوم‏.‏ وجاءه عبد الله بن زهير السلولي بأنهم خرجوا على دهش وفشل وابن الأشتر يحرض أصحابه ويذكرهم أفعال ابن زياد وأبيه‏.‏ ثم التقى الجمعان وحمل الحصين بن نمير من ميمنة أهل الشام على ميسرة إبراهيم فقتل علي بن مالك الخثعمي ثم أخذ الراية فرد ابن علي فقتل وانهزمت المسيرة فأخذ الراية عبد الله بن ورقاء بن جنادة السلولي ورجع بالمنهزمين إلى الميسرة كما كانوا‏.‏ وحملت ميمنة إبراهيم على ميسرة ابن زياد وهم يرجون أن ينهزم عمير بن الحباب كما وعدهم فمنعته الأنفة من ذلك وقاتل قتالاً شديداً‏.‏ وقصد ابن الأشتر قلب العسكر وسواده الأعظم فاقتتلوا أشد قتال حتى كانت أصوات الضرب بالحديد كأصوات القصارين وإبراهيم يقول لصاحب رايته انغمس برايتك فيهم‏.‏ ثم حملوا حملة رجل واحد فانهزم أصحاب ابن زياد‏.‏ وقال ابن الأشتر إني قتلت رجلاً تحت راية منفردة شممت منه رائحة المسك وضربته بسيفي فقصمته نصفين فالتمسوه فإذا هو ابن زياد فأخذت رأسه وأحرقت جثته‏.‏ وحمل شريك بن جدير الثعلبي على الحصين بن نمير فاعتقله وجاء أصحابه فقتلوا الحصين‏.‏ ويقال‏:‏ إن الذي قتل ابن زياد هو ابن جدير هذا وقتل شرحبيل بن ذي الكلاع وأدعى قتله سفيان بن يزيد الأزدي وورقاء بن عازب الأزدي وعبيد الله بن زهير السلمي واتبع أصحاب ابن الأشتر المنهزمين فغرق في النهر أكثر ممن قتل وغنموا جميع ما في العسكر‏.‏ وطرأ ابن الأشتر بالبشارة إلى المختار فأتته بالمدائن وأنفذ ابن الأشتر عماله إلى البلاد فبعث أخاه عبد الرحمن على نصيبين وغلب على سنجار ودارا وما والاهما من أرض الجزيرة‏.‏ وولى زفر بن الحارث قيس وحاتم بن النعمان الباهلي حران والرها وشمشاط وعمير بن الحباب السلمي كفرنوبي وطور عبدين وأقام بالموصل وأنفذ رؤوس عبيد الله وقواده إلى المختار‏.‏

  مسير مصعب إلى المختار وقتله إياه

كان ابن الزبير في أول سنة سبع وستين أو آخر ست عزل الحارث بن ربيعة وهو القباع وولى مكانه أخاه مصعباً فقدم البصرة وصعد المنبر وجاء الحارث فأجلسه مصعب تحته بدرجة ثم خطب وقرأ الآيات من أول القصص ونزل ولحق به أشراف الكوفة حتى قربوا من المختار ودخل عليه شيث بن ربعي وهو ينادي واغوثاه ثم قدم محمد بن الأشعث بعده واستوثقوه إلى المسير وبعث إلى المهلب بن أبي صفرة وهو عامله على فارس ليحضر معه قتال المختار فأبطأ وأغفل‏.‏ وأرسل إليه محمد بن الأشعث بكتابه فقال المهلب‏:‏ ما وجد مصعب بريداً غيرك فقال‏:‏ ما أنا ببريد ولكن غلبنا عبيدنا على أبنائنا وحرمنا فأقبل معه المهلب بالجموع والأموال وعسكر مصعب عند الجسر فأرسل عبد الرحمن بن مخنف إلى الكوفة سرًا ليثبط الناس عن المختار ويدعو إلى ابن الزبير‏.‏ وسار على التعبية وبعث في مقدمته عباد بن الحصين الحبطي التميمي وعلى ميمنته عمر بن عبيد الله بن معمر وعلى ميسرته المهلب‏.‏ وبلغ الخبر المختار فقام في أصحابه وقربهم إلى الخروج مع ابن شميط وعسكر مع محمد في أعفر‏.‏ وبعث رؤوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر مع ابن شميط وأصحابه فثبتوا وحمل المهلب من الميسرة على ابن كامل فثبت ثم كر المهلب وحمل حملة منكره وصبر ابن كامل قليلاً وانهزموا وحمل الناس جميعاً على ابن شميط فانهزم وقتل‏.‏ واستمر القتل في الرجالة وبعث مصعب عباداً فقتل كل أسير أخذه‏.‏ وتقدم محمد بن الأشعث في خيل من أهل الكوفة فلم يدركوا منهزماً إلا قتلوه‏.‏ ولما فرغ مصعب منهم أقبل فقطع الفرات من موضع واسط وحملوا الضعفاء وأثقالهم في السفن ثم خرجوا إلى نهر الفرات وسار إلى الكوفة‏.‏ ولما بلغ المختار في الهزيمة ومن قتل من أصحابه وأن مصعباً أقبل إليه في البر والبحر سار إلى مجتمع الأنهار نهر الجزيرة والمسلحين والقادسية ونهر يسر‏.‏ فسكر الفرات فذهب ماؤه في الأنهار‏.‏ وبقيت سفن أهل البصرة في الطين فخرجوا إلى السكر وأزالوه وقصدوا الكوفة‏.‏ وسار المختار ونزل حروراء بعد أن حصن القصر وأدخل عدة الحصار وأقبل مصعب وعلى ميمنته المهلب و على ميسرته عمر بن عبيد الله وعلى الخيل عباد بن الحصين وجعل المختار على ميمنته سليم بن يزيد الكندي وعلى ميسرته سعيد بن منقذ الهمداني وعلى الخيل عمر بن عبيد الله النهدي‏.‏ ونزل محمد بن الأشعث فيمن هرب من أهل الكوفة بين العسكرين‏.‏ ولما التقى الجمعان اقتتلوا ساعة وحمل عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومي على من بإزائه فحطم أصحاب المختار حطمة منكرة وكشفوهم وحمل مالك بن عمر النهدي في الرجالة عند المساء على ابن الأشعث حملة منكرة فقتل ابن الأشعث وعامة أصحابه وقتل عبيد الله بن علي بن أبي طالب وقاتل المختار‏.‏ ثم افترق الناس ودخل القصر وسار مصعب من الغد فنزل السبخة وقطع عنهم الميرة‏.‏ وكان الناس يأتونهم بالقليل من الطعام والشراب خفية ففطن مصعب ثم إن المختار أشار على أصحابه بالاستماتة فتحنط وتطيب وخرج في عشرين رجلاً منهم السائب بن مسلك الأشعري فعذله‏.‏ فقال‏:‏ ويحك يا أحمق وثب ابن الزبير الحجاز ووثب بجدة باليمامة وابن مروان بالشام فكنت كأحدهم إلا أني طلبت بثأر أهل البيت إذ نامت عقد العرب فقاتل على حسبك إن لم يكن لك نية‏.‏ ثم تقدم فقاتل حتى قتل على يد رجلين من بني حنيفة أخوين طرفة وطراف ابني عبد الله بن دجاجة‏.‏ وكان عبد الله بن جعدة بن هبيرة لما رأى عزم المختار على الاستماتة تدلى من القصر واختفى عند بعض إخوانه ثم بعث الذين بقوا بالقصر إلى مصعب ونزلوا على حكمه فقتلهم أجمعين‏.‏ وأشار عليه المهلب باستبقائهم فاعترضه أشراف أهل الكوفة ورجع إلى رأيهم‏.‏ ثم أمر بكف المختار بن أبي عبيد فقطعت وسمرت إلى جانب المسجد فلم ينزعها من هنالك إلا الحجاج‏.‏ وقتل زوجة عمرة بنت النعمان بن بشير زعمت أن المختار فاستأذن أخاه عبد الله وقتلها‏.‏ ثم كتب مصعب إلى إبراهيم بن الأشتر يدعوه إلى طاعته‏.‏ ووعده بولاية أعنة الخيل وما غلب عليه من المغربة‏.‏ وكتب إليه عبد الملك بولاية العراق واختلف عليه أصحابه فجنح إلى مصعب خشية مما أصاب ابن زياد وأشراف أهل الشام‏.‏ وكتب إلى مصعب بالإجابة وسار إليه فبعث على عمله بالموصل والجزيرة وأرمينية وأذربيجان المهلب بن أبي صفرة‏.‏ وقيل إن المختار إنما أظهر الخلاف لابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة وأنه بعث على مقدمته أحمد بن شميط وبعث مصعب عباداً الحبطي ومعه عبيد الله بن علي بن أبي طالب وتراضوا ليلاً فناجزهم المختار من ليلته‏.‏ وانكشف أصحاب مصعب إلى عسكرهم واشتد القتال وقتل من أصحاب مصعب جماعة منهم محمد بن الأشعث‏.‏ فلما أصبح المختار وجد أصحابه قد توغلوا في أصحاب مصعب وليس عنده أحد فانصرف ودخل قصر الكوفة وفقد أصحابه فلحقوا به ودخل القصر معه ثمانية آلاف منهم‏.‏ وأقبل مصعب فحاصرهم أربعة أشهر يقاتلهم بالسيوف كل يوم حتى قتل وطلب الذين في القصر الأمان من مصعب ونزلوا على حكمه فقتلهم جميعاً وكانوا ستة آلاف رجل‏.‏ ولما ملك مصعب الكوفة بعث عبد الله بن الزبير ابنه حمزة على البصرة مكان مصعب فأساء السيرة وقصر بالأشراف ففزعوا إلى مالك بن مسمع فخرج إلى الجسر وبعث إلى حمزة أن ألحق بأبيك‏.‏ وكتب الأحنف إلى أبيه أن يعزله عنهم ويعيد لهه مصعباً ففعل‏.‏ وخرج حمزة بالأموال فعرض له مالك بن مسمع وقال‏:‏ لا تدعك تخرج بأعطيتنا فضمن له عمر بن عبيد الله العطاء فكف عنه‏.‏ وقيل‏:‏ إن عبيد الله بن الزبير إنما رده مصعباً إلى البصرة عند وفادته عليه بعد سنة من قتل المختار‏.‏ ولما رده إلى البصرة استعمل عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس وولاه حرب الأزارقة‏.‏ وكان المهلب على حربهم أيام مصعب وحمزة فلما رد مصعباً أراد أن يولي المهلب الموصل والجزيرة وأرمينية ليكون بينه وبين عبد الملك فاستقدمه واستخلف على عمله المغيرة‏.‏ فلما قدم البصرة عزله مصعب عن حرب الخوارج وبلاد فارس واستعمل عليها عمر بن عبيد الله بن معمر فكان له في حروبهم ما نذكره في أخبار الخوارج‏.‏

  خلاف عمرو بن سعيد الأشدق ومقتله

كان عبد الملك بعد رجوعه من قنسرين أقام بدمشق زماناً ثم سار لقتال زحر بن الحارث الكلابي بقرقيسيا واستخلف على دمشق عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي ابن أخته وسار معه عمرو بن سعيد‏.‏ فلما بلغ بطنان انتقض عمرو وأسرى ليلاً إلى دمشق وهرب ابن أم الحكم عنها فدخلها عمرو وهدم داره واجتمع إليه الناس فخطبهم ووعدهم‏.‏ وجاء عبد الملك على أثره فحاصره بدمشق ووقع بينهما القتال أياماً‏.‏ ثم اصطلحا وكتب بينهما كتاباً وأمنه عبد الملك فخرج إليه عمرو ودخل عبد الملك دمشق فأقام أربعة أيام‏.‏ ثم بعث إلى عمرو ليأتيه فقال له عبد الله بن يزيد بن معاوية وهو صهره وكان عنده‏:‏ لا تأتيه فإني أخشى عليك منه‏.‏ فقال‏:‏ والله لو كنت نائماً ما أيقظني‏.‏ ووعد الرسول بالرواح إليه ثم أتى بالعشي ولبس درعه تحت القباء ومضى في مائة من مواليه وقد جمع عبد الملك عنده بني مروان وحسان بن نجد الكلبي وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي وأذن لعمرو فدخل‏.‏ ولم يزل أصحابه يجلسون عند كل باب حتى بلغوا قاعة الدار وما معه إلا غلام واحد ونظر إلى عبد الملك والجماعة حوله فأحس بالشر وقال للغلام انطلق إلى أخي يحيى وقل له يأتيني فلم يفهم عنه وأعاد عليه فيجيبه الغلام لبيك وهو لا يفهم‏.‏ فقال له اغرب عني‏.‏ ثم أذن عبد الملك لحسان وقبيصة فلقيا عمراً ودخل فأجلسه معه على السرير وحادثه زمناً‏.‏ ثم أمر بنزع السيف عنه‏.‏ فأنكر ذلك عمرو وقال‏:‏ اتق الله يا أمير المؤمنين فقال له عبد الملك‏.‏ أتطمع أن تجلس معي متقلداً سيفك فأخذ عنه السيف ثم قال له عبد الملك يا أبا أمية إنك حين خلعتني حلفت يمين إن أنا رأيتك بحيث أقدر عليك أن أجعلك في جامعة فقال بنو مروان ثم تطلقه يا أمير المؤمنين قال‏:‏ نعم وما عسيت أن أصنع بأبي أمية‏.‏ فقال بنو مروان أبر قسم أمير المؤمنين يا أبا أمية فقال عمرو قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنين‏.‏ فأخرج من تحت فراشه جامعة وأمر غلاماً فجمعه فيها وسأله أن لا يخرجه على رؤوس الناس‏.‏ فقال أمكراً عند الموت‏.‏ تم جذبه جذبة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته ثم سأل الإبقاء‏.‏ فقال عبد الملك‏:‏ والله لو علمت أنك تبقى أن أبقيت عليك وتصلح قريش لأبقيتك ولكن لا يجتمع رجلان مثلنا في بلد‏.‏ فشتمه عمرو وخرج عبد الملك إلى الصلاة وأمر أخاه عبد العزيز بقتله‏.‏ فلما قام إليه بالسيف ذكره الرحم فأمسك عنه وجلس‏.‏ ورجع عبد الملك من الصلاة وغلقت الأبواب فغلظ لعبد العزيز ثم تناول عمراً فذبحه بيده وقيل أمر غلامه ابن الزغير فقتله‏.‏ وافتقد الناس عمر مع عبد الملك حين خرج إلى الصلاة فأقبل أخوه يحيى في أصحابه وعبيده وكانوا ألفاً ومعه حميد بن الحارث وحريث وزهير بن الأبرد فهتفوا باسمه ثم كسروا باب المقصورة وضربوا الناس بالسيوف وخرج الوليد بن عبد الملك واقتتلوا ساعة‏.‏ ثم خرج عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي بالرأس فألقاه إلى الناس وألقى إليهم عبد العزيز بن مروان بدر الأموال فانتهبوها وافترقوا‏.‏ ثم خرج عبد الملك إلى الناس وسأل عن الوليد فأخبر بجراحته وأتى بيحيى بن سعيد وأخيه عنبسة فحبسهما وحبس بني عمر بن سعيد ثم أخرجهم جميعاً وألحقهم بمصعب حتى حضروا عنده بعد قتل مصعب فأمنهم ووصلهم‏.‏ وكان بنو عمرو أربعة‏:‏ أمية وسعد وإسماعيل ومحمد‏.‏ ولما حضروا عنده قال أنتم أهل بيت ترون لكم على جميع قومكم فضلاً لن يجعله الله لكم والذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثاً بل كان قديماً في أنفس أوليكم على أولينا في الجاهلية‏.‏ فقال سعيد‏:‏ يا أمير المؤمنين تعد علينا أمراً كان في الجاهلية والإسلام قد هدم ذلك ووعد جنة حذر ناراً‏.‏ وأما عمرو فهو ابن عمك وقد وصك إلى الله وأنت أعلم بما صنعت إن أحدثنا به فبطن الأرض خير لنا من ظهرها‏.‏ فرق لهم عبد الملك وقال أبوكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله واخترت قتله على قتلتي أما أنتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم وأحسن حالتهم‏.‏ وقيل إن عمراً إنما كان خلفه وقتله حين سار عبد الملك لقتال مصعب طلبه أن يجعل له العهد بعده كما فعل أبوه فلم يجبه إلى ذلك فرجع إلى دمشق فعصى وامتنع بها وكان قتله سنة تسع وستين‏.‏

  مسير عبد الملك إلى العراق ومقتل مصعب

ولما صفا الشام لعبد الملك اعتزم على غزو العراق وأتته الكتب من أشرافهم يدعونه فاستمهله أصحابه فأبى‏.‏ وسار نحو العراق وبلغ مصعباً سيره فأرسل إلى المهلب بن أبي صفرة وهو بفارس في قتال الخوارج يستشيره‏.‏ وقد كان عزل عمر بن عبيد الله بن معمر عن فارس وحرب الخوارج وولى مكانه المهلب وذلك حين استخلف على الكوفة‏.‏ وجاء خالد بن عبيد الله بن خالد بن أسيد على البصرة مختفياً وأعيد لعبد الملك عند مالك بن مسمع في بكر بن وائل والأزد وأمد عبد الملك بعبيد الله بن زياد بن ظبيان وحاربهم عمر بن عبيد الله بن معمر ثم صالحهم على أن يخرجوا خالداً فأخرجوه‏.‏ وجاء مصعب وقد طمع أن يدرك خالداً فوجده قد خرج فسخط على ابن معمر وسب أصحابه وضربهم وهدم دورهم وحلقهم وهم دار مالك بن مسمع واستباحها‏.‏ وعزل بن معمر عن فارس وولى المهلب وخرج إلى الكوفة‏.‏ فلم يزل بها حتى سار للقاء عبد الملك وكان معه الأحنف فتوفي بالكوفة‏.‏ ولما بعث عن المهلب ليسير معه أهل البصرة إلا أن يكون المهلب على قتال الخوارج رده وقال له المهلب‏:‏ إن أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك وكاتبهم فلا يتعدى‏.‏ ثم بعث مصعب عن إبراهيم بن الأشتر وكان على الموصل والجزيرة فجعله في مقدمته وسار حتى عسكر في معسكره وسار عبد الملك وعلى مقدمته أخوه محمد بن مروان وخالد بن عبيد الله بن خالد بن أسيد فنزلوا قريباً من قرقيسيا‏.‏ وحضر زفر بن الحارث الكلابي ثم صالحه‏.‏ وبعث زفر معه الهذيل ابنه في عسكر وسار معه فنزل بمسكن قريباً من مسكن مصعب وفر الهذيل بن زفر فلحق بمصعب‏.‏ وكتب عبد الملك إلى أهل العراق وكتبوا إليه وكلهم بشرط أصفهان وأتى ابن الأشتر بكتاب مختوماً إلى مصعب فقرأه فإذا هو يدعوه إلى نفسه ويجعل له ولاية العراق فأخبره مصعب بما فيه وقال مثل هذا لا يرغب عنه‏.‏ فقال إبراهيم‏:‏ ما كنت لأتقلد الغدر والخيانة‏.‏ ولقد كتب عبد الملك لأصحابك كلهم مثل هذا فأطعني واقتلهم أو احبسهم في أضيق محبس فأبى عليه مصعب وأضمر أهل العراق الغدر ولما تدانى العسكران بعث عبد الملك إلى مصعب يقول فقال‏:‏ تجعل الأمر شورى‏.‏ فقال مصعب ليس بيننا إلا السيف‏.‏ فقدم عبد الملك أخاه محمداً وقدم مصعب إبراهيم بن الأشتر وأمده بالجيش فأزال محمداً عن موقفه وأمده عبد الملك بعبيد الله بن يزيد فاشتد القتال وقتل من أصحاب مصعب بن عمر الباهلي والد قتيبة وأمد مصعب إبراهيم بعتاب بن ورقاء فساء ذلك إبراهيم ونكره‏.‏ وقال‏:‏ أوصيته لا يمدني بعتاب وأمثاله‏.‏ وكان قد بايع لعبد الملك فجر الهزيمة على إبراهيم وقتله وحمل رأسه إلى عبد الملك‏.‏ وتقدم أهل الشام فقاتل مصعب ودعا رؤوس العراق إلى القتال فاعتذروا وتثاقلوا‏.‏ فدنا محمد بن مروان من مصعب وناداه بالأمان وأشعره بأهل العراق فأعرض عنه فنادى ابنه عيسى بن مصعب فأذن له أبوه في لقائه‏.‏ فجاءه وبذل له الأمان وأخبر أباه فقال‏:‏ أتظنهم يعرفون لك ذلك فإن أحببت فافعل‏.‏ قال لا يتحدث نساء قريش إني رغبت بنفسي عنك‏.‏ قال‏:‏ فاذهب إلى عمك بمكة فأخبره بصنيع أهل العراق ودعني فأتى مقتول فقال لا أخبر قريشاً عنك أبداً ولكن الحق أنت بالبصرة فإنهم على الطاعة أو بأمير المؤمنين بمكة‏.‏ فقال لا يتحدث قريش إني فررت‏.‏ثم قال لعيسى تقدم يا بني أحتسبك فتقدم في ناس فقتل وقتلوا‏.‏ وألح عبد الملك في قبول أمانه فأبى ودخل سرادقه فتحفظ ورمى السرادق وخرج فقاتل ودعاه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فشتمه وحمل عليه وضربه فجرحه‏.‏ وخذل أهل العراق مصعباً حتى بقي في سبعة أنفس وأثخنته الجراحة فرجع إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فقتله وجاء برأسه إلى عبد الملك فأمر له بألف دينار فلم يأخذها‏.‏ وقال‏:‏ إنما قتلته بثأر أخي وكان قطع الطريق فقتله صاحب شرطته وقيل‏:‏ إن الذي قتله زائدة بن قدامة الثقفي من أصحاب المختار‏.‏ وأخذ عبيد الله رأسه وأمر عبد الملك به وبابنه عيسى فدفنا بدار الجاثليق عند نهر رحبيل‏.‏ وكان ذلك سنة إحدى وسبعين‏.‏ ثم دعا عبد الملك جند العراق إلى البيعة فبايعوه وسار إلى الكوفة فأقام بالنخيلة أربعين يوماً وخطب الناس فوعد المحسن وطلب يحيى بن سعيد عن جعفة وكانوا أخواله فأحضروه فأمنه‏.‏ وولى أخاه بشر بن مروان على الكوفة ومحمد بن نمير على همدان ويزيد بن ورقاء بن رويم على الري ولم يف لهم بأصبهان كما شرطوا عليه وكان عبد الله بن يزيد بن أسد والد خالد القسري ويحيى بن معتوق الهمداني قد لجآ إلى علي بن عبد الله بن عباس ولجأ هذيل بن زفر بن الحارث وعمر بن يزيد الحكمي إلى خالد بن يزيد فأمنهم عبد الملك‏.‏ وصنع عمر بن حريث لعبد الملك طعاماً فأخبره بالخورنق وأذن للناس عامة فدخلوا وجاء عمر بن حريث فأجلسه معه على سريره وطعم الناس‏.‏ ثم طاف مع عمر بن حريث على القصر يسأله عن مساكنه ومعالمه ولما بلغ عبد الله بن حازم مسير مصعب لقتال عبد الملك قال‏:‏ أمعه عمر بن معمر قيل‏:‏ هو على فارس‏.‏ قال فالمهلب‏.‏ قيل في قتال الخوارج‏.‏ قال فعباد بن الحسين قيل على البصرة‏.‏ قال‏:‏ وأنا بخراسان‏.‏ خذيني فجريني جهاراً وأنشدي بلحم امرىء لم يشهد اليوم ناصره‏.‏ ثم بعث عبد الملك برأس مصعب إلى الكوفة ثم إلى الشام‏.‏ فنصب بدمشق وأرادوا التطاوف به فمنعت من ذلك زوجة عبد الملك عاتكة بنت يزيد بن معاوية فغسلته ودفنته‏.‏ انتهى قتل مصعب إلى المهلب وهو يحارب الأزارقة فبايع الناس لعبد الملك بن مروان‏.‏ ولما جاء خبر مصعب لعبد الله بن الزبير خطب الناس فقال‏:‏ الحمد لله الذي له الخلق والأمر يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء وبذل من يشاء‏.‏ ألا وأنه لم يذل الله من كان الحق معه وإن كان الناس عليه طراً‏.‏ وقد أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا أتانا قتل مصعب‏.‏ فالذي أفرحنا منه أن قتله شهادة وأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة‏.‏ ثم عبد من عبيد الله وعون من أعواني ألا وإن أهل العراق أهل الغدر والنفاق سلموه وباعوه بأقل الثمن فإن فوالله ما نموت على مضاجعنا كما يموت بنو أبي العاص والله ما قتل رجل منهم في الجاهلية ولا في الإسلام‏.‏ ولا نموت إلا طعناً بالرماح وتحت ظلال السيوف ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكة فإن تقبل لا آخذها أخذ الأشر البطور وإن تدبر لم أبك عليها بكاء الضرع المهين‏.‏ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم‏.‏ ولما بلغ الخبر إلى البصرة تنازع ولايتها حمدان بن أبان وعبد الله بن أبي بكرة واسعان حمدان بعبد الله بن الأهتم عليها وكانت له منزلة عند بني أمية فلما تمهد الأمر بالعراق لعبد الملك بعد مصعب ولى على البصرة خالد بن عبد الله بن أسيد فاستخلف عليها عبيد الله بن أبي بكرة فقدم على حمدان وعزله حتى جاء خالد ثم عزل خالداً سنة ثلاث وسبعين وولى مكانه على البصرة أخاه بشراً وجمع له المصرين وسار بشر إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمر بن حريث‏.‏ وولى عبد الملك على الجزيرة وأرمينية بعد قتل مصعب أخاه محمد بن مروان سنة ثلاث وستين فغزا الروم ومزقهم بعد أن كان هادن ملك الروم أيام الفتنة على ألف دينار يدفعها إليه في كل يوم‏.‏

  أمر زفر بن الحارث بقرقيسيا

قد ذكرنا في وقعة راهط مسير ابن زفر إلى قرقيسيا واجتماع قيس عليه‏.‏ وأقام بها يدعو لابن الزبير‏.‏ ولما ولي عبد الملك كتب إلى أبان بن عقبة بن أبي معيط وهو على حمص بالمسير إلى زفر فسار وعلى مقدمته عبد الله بن رميت العلائي فعاجله عبد الله بالحرب وقتل من أصحابه نحو ثلثمائة‏.‏ ثم أقبل إبان فواقع زفر وقيل ابنه وكيع بن زفر وأوهنه‏.‏ ثم سار إليه عبد الملك إلى قرقيسيا قبل مسيره إلى مصعب فحاصره ونصب عليه المجانيق وقال‏:‏ كلب لعبد الملك لا تخلط معنا القيسية فإنهم ينهزمون إذا التقينا مع زفر ففعل‏.‏ واشتد حصارهم وكان زفر يقاتلهم في كل غداة وأمر ابنه الهذيل يوماً أن يحمل زفر حتى يضرب فسطاط عبد الملك ففعل وقطع بعض أطنابه‏.‏ثم بعث عبد الملك أخاه بالأمان لزفر وابنه الهذيل على أنفسهما ومن معهما وأن لهم ما أحبوا‏.‏ فأجاب الهذيل وأدخل أباه في ذلك‏.‏ وقال عبد الملك لنا خير من ابن الزبير فأجاب أن له الخيار في بيعته سنة‏.‏ وأن ينزل حيث شاء ولا يعين على ابن الزبير‏.‏ وبينما الرسل تختلف بينهم إذ قيل لعبد الملك قد قدم من المدينة أربعة أبراج فترك الصلح وزحف إليهم فكشفوا أصحابه إلى عسكرهم ورجع إلى الصلح واستقر بينهم على الأمان ووضع الدماء والأموال‏.‏ وأن لا يبايع لعبد الملك حتى يموت ابن الزبير للبيعة التي له في عنقه وأن يدفع إليه مال نفسه في أصحابه‏.‏ وتأخر زفر عن لقاء عبد الرحمن خوفاً من فعلته بعمر بن سعد‏.‏ فأرسل إليه بقضيب النبي صلى الله عليه وسلم فجاء إليه وأجلسه عبد الملك معه على سريره‏.‏ وزوج ابنه مسلمة الرباب بنت زفر‏.‏ وسار عبد الملك إلى قتال مصعب فبعث زفر ابنه الهذيل معه بعسكر ولما قارب مصعباً هرب إليه وقاتل مع ابن الأشتر حتى إذا اقتتلوا اختفى الهذيل في الكوفة حتى أمنه عبد الملك كما مر‏.‏

  مقتل ابن حازم بخراسان وولاية بكير بن وشاح عليها

قد تقدم لنا خلاف بني تميم على ابن حازم بخراسان وأنهم كانوا على ثلاث فرق وكف فرقتين منهم‏.‏ وبقي يقاتل الفرقة الثالثة من نيسابور وعليهم بجير بن ورقاء الصريمي‏.‏ فلما قتل مصعب بعث عبد الملك إلى حازم يدعوه إلى البيعة ويطعمه خراسان سبع سنين وبعث الكتاب مع رجل من بني عامر بن صعصعة‏.‏ فقال ابن حازم‏:‏ لولا الفتنة بين سليم وعامر ولكن كل كتابك فأكله‏.‏ وكان بكير بن وشاح التميمي خليفة ابن حازم على مرو فكتب إليه عبد الملك بعهده على خراسان ورغبة بالمطامع أن انتهى فخلع ابن الزبير ودعا إلى عبد الملك وأجابه أهل مرو‏.‏ وبلغ ابن حازم فخاف أن يأتيه بكير ويجتمع عليه أهل مرو وأهل نيسابور فترك بجيراً وارتحل عنه إلى مرو ويزيد ابنه يترمد‏.‏ فاتبعه بجير ولحقه قريباً من مرو واقتتلوا فقتل ابن حازم‏.‏ طعنه وبعث بجير البشير بذلك إلى عبد الملك وترك الرأس وجاء بكير بن وشاح في أهل مرو وأراد إنفاذ الرأس إلى عبد الملك وأنه الذي قتل ابن حازم وأقام في ولاية خراسان‏.‏ وقيل إن ذلك إنما كان بعد قتل ابن الزبير وأن عبد الملك أنفذ رأسه إلى ابن حازم ودعاه إلى البيعة فغسل الرأس وكفنه وبعثه إلى ابن الزبير بالمدينة‏.‏ وكان من شأنه مع الرسول ومع بجير وبكير ما ذكرناه‏.‏ كان عبد الملك لما بويع بالشام بعث إلى المدينة عروة بن أنيف في ستة آلاف من أهل الشام وأمره أن يسكن بالعرصة ولا يدخل المدينة وعامل ابن الزبير يومئذ على المدينة الحارث بن حاطب بن الحارث بن معمر الجمحي فهرب الحارث وأقام ابن أنيف شهراً يصلي بالناس الجمعة بالمدينة ويعود إلى معسكره‏.‏ ثم رجع ابن أنيف إلى الشام ورجع الحارث إلى المدينة‏.‏ وبعث ابن الزبير سليمان بن خالد الدورقي على خيبر وفدك‏.‏ ثم بعث عبد الملك إلى الحجاز عبد الملك بن الحارث بن الحكم في أربعة آلاف فنزل وادي القرى وبعث سريةً إلى سليمان بخيبر وهرب وأدركوه فقتلوه ومن معه‏.‏ وأقاموا بخيبر وعليهم ابن القمقام‏.‏ وذكر لعبد الملك ذلك فاغتم وقال‏:‏ قتلوا رجلاً صالحاً بغير ذنب‏.‏ ثم عزل ابن الزبير الحارث بن حاطب عن المدينة وولى مكانه جابر بن الأسود بن عوف الزهري فبعث جابر إلى خيبر أبا بكر بن أبي قيس في ستمائة فانهزم ابن القمقام وأصحابه أمامه وقتلوا صبراً‏.‏ ثم بعث عبد الملك طارق بن عمر مولى عثمان وأمره أن ينزل بين أيلة ووادي القرى ويعمل كما يعمل عمال ابن الزبير من الانتشار وليس خللاً إن ظهر له بالحجاز فبعث طارق خيلاً إلى أبي بكير بخيبر واقتتلوا فأصيب أبو بكير في مائتين من أصحابه وكتب ابن الزبير إلى القباع وهو عامله على البصرة يستمده ألفي فارس إلى المدينة‏.‏ فبعثهم القباع وأمر ابن الزبير جابر بن الأسود أن يسيرهم إلى قتال طارق ففعل ولقيهم طارق فهزمهم وقتل مقدمهم‏.‏ وقتل من أصحابه خلقاً وأجهز على جريحهم ولم يستبق أسيرهم ورجع إلى وادي القرى‏.‏ ثم عزل ابن الزبير جابراً عن المدينة واستعمل طلحة بن عبد الله بن عوف وهو طلحة النداء وذلك سنة سبعين‏.‏ فلم يزل على المدينة حتى أخرجه طارق‏.‏ ولما قتل عبد الملك مصعباً ودخل الكوفة وبعث منها الحجاج بن يوسف الثقفي في ثلاثة آلاف من أهل الشام لقتال ابن الزبير وكتب معه بالأمان لابن الزبير ومن معه إن أطاعوا‏.‏ فسار في جمادى سنة اثنتين وسبعين فلم يتعرض للمدينة ونزل الطائف‏.‏ وكان يبعث الخيل إلى عرفة ويلقاهم هناك خيل ابن الزبير فينهزمون دائماً وتعود خيل الحجاج بالظفر‏.‏ ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره بضعف ابن الزبير وتفرق أصحابه ويستأذنه في دخول الحرم لحصار ابن الزبير ويستمده فكتب عبد الملك إلى طارق يأمره باللحاق بالحجاج فقدم المدينة في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين وأخرج عنها طلحة النداء عامل بن الزبير وولى مكانه رجلاً من أهل الشام وسار إلى الحجاج بمكة في خمسة آلاف‏.‏ ولما قدم الحجاج مكة أحرم بحجه ونزل بئر ميمون وحج بالناس ولم يطف ولا سعى وحصر ابن الزبير عن عرفة فنحر بدنة بمكة ولم يمنع الحاج من الطواف والسعي‏.‏ ثم نصب الحجاج المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة وكان ابن عمر قد حج تلك السنة فبعث إلى الحجاج بالكف عن المنجنيق لأجل الطائفين ففعل ونادى منادي الحجاج عند الإفاضة انصرفوا فإنا نعود بالحجارة على ابن الزبير ورمى بالمنجنيق على الكعبة وألحت الصواعق عليهم في يومين وقتلت من أصحاب الشام رجالاً فذعروا‏.‏ فقال لهم الحجاج لا شك فهذه صواعق تهامة وأن الفتح قد حضر فأبشروا‏.‏ثم أصابت الصواعق من أصحاب ابن الزبير فسري عن أهل الشام فكانت الحجارة تقع بين يدي ابن الزبير وهو يصلي فلا ينصرف ولم يزل القتال بينهم وغلت الأسعار وأصاب الناس مجاعةً شديدة حتى ذبح ابن الزبير فرسه وقسم لحمها في أصحابه‏.‏ وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم والمد من الذرة بعشرين وبيوت ابن الزبير مملوءة قمحاً وشعيراً وذرةً وتمراً ولا ينفق منها إلا ما يمسك الرمق يقوي بها نفوس أصحابه‏.‏ ثم أجهدهم الحصار وبعث الحجاج إلى أصحاب ابن الزبير بالأمان فخرج إليه منهم نحو عشرة آلاف وافترق الناس عنه‏.‏ وكان ممن فارقه ابناه حمزة وحبيب وأقام ابنه الزبير حتى قتل معه‏.‏ وحرض الناس الحجاج وقال‏:‏ قد ترون قلة أصحاب ابن الزبير وما هم فيه من الجهد والضيق فتقدموا واملؤوا ما بين الحجون والأبواء‏.‏ فدخل ابن الزبير على أمه أسماء وقال يا أمه‏:‏ قد خذلني الناس حتى ولدي والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا فما رأيك فقالت أنت أعلم بنفسك إن كنت على حق وتدعو إليه فامض له فقد قتل عليه أصحابك ولا تمكن من رقبتك وقد بلغت بها علمين بين بني أمية‏.‏ وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن قتل معك‏.‏ وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فليس هذا فعل الأحرار ولا أهل الدين فقال يا أمه أخاف أن يمثلوا بي ويصلبوني‏.‏ فقالت يا بني الشاة إذا ذبحت لا تتألم بالسلخ فامض على بصيرتك واستعن بالله‏.‏ فقبل رأسها وقال هذا رأي والذي خرجت به داعياً إلى يومي هذا وما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة وما أخرجني إلا الغضب لله وأن تستحل حرماته ولكن أحببت أن أعلم رأيك فقد زدتيني بصيرة‏.‏ وإني يا أمه في يومي هذا مقتول فلا يشتد حزنك وسلمي لأمر الله فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عمد بفاحشة ولم يجر ولم يغدر ولم يظلم ولم يقر على الظلم ولم يكن آثر عندي من رضا الله تعالى‏.‏ اللهم لا أقر هذا تزكية لنفسي لكن تعزية لأمي حتى تسلو عني‏.‏ فقالت إني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلاً إن تقدمتني احتسبتك وإن ظفرت سررت بظفرك‏.‏ ثم قالت‏:‏ اخرج حتى أنظر ما يصير أمرك جزاك الله خيراً‏.‏ قال فلا تدعي الدعاء لي فدعت له وودعها وودعته ولما عانقته للوداع وقعت يدها على الدرع فقالت‏:‏ ها هذا صنيع من يريد ما تريد فقال ما لبستها إلا لأشد منك‏.‏ فقالت إنه لا يشد مني فنزعها وقالت له البس ثيابك مشمرة‏.‏ ثم خرج فحمل على أهل الشام حملةً منكرة فقتل منهم ثم انكشف هو وأصحابه وأشار عليه بعضهم بالفرار فقال‏:‏ بئس الشيخ إذن أنا في الإسلام إذا واقعت قوماً فقتلوا ثم فررت عن مثل مصارعهم‏.‏ وامتلأت أبواب المسجد بأهل الشام والحجاج وطارق بناحية الأبطح إلى المروة وابن الزبير يحمل على هؤلاء وعلى هؤلاء وينادي أبا صفوان لعبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف فيجيبه من جانب المعترك‏.‏ ولما رأى الحجاج إحجام الناس عن ابن الزبير غضب وترجل وحمل إلى صاحب الراية بين يديه فتقدم ابن الزبير إليهم وكشفهم عنه ورجع فصلى ركعتين عند المقام وحملوا على صاحب الراية فقتلوه عند باب بني شيبة وأخذوا الراية‏.‏ ثم قاتلهم وابن مطيع معه حتى قتل ويقال أصابته جراحة فمات منها بعد أيام ويقال إنه قال لأصحابه يوم قتل‏:‏ يا آل الزبير أوطبتم لي نفساً عن أنفسكم كأهل بيت من العرب اصطلمنا في الله فلا يرعكم وقع السيوف فإن ألم الدواء في الجرح أشد من ألم وقعها صونوا سيوفكم بما تصونون وجوهكم وغضوا أبصاركم عن البارقة وليشغل كل امرىء قرنه ولا تسألوا عني‏.‏ ومن كان سائلاً فإني في الرعيل الأول‏.‏ ثم حمل حتى بلغ الحجون فأصابته حجارة في وجهه فأرغش لها ودمي وجهه‏.‏ ثم قاتل قتالاً شديداً وقتل في جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين‏.‏ وحمل رأسه إلى الحجاج فسجد وكبر أهل الشام وثار الحجاج وطارق حتى وقفا عليه وبعث الحجاج برأسه ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى عبد الملك‏.‏ وصلب جثته منكسةً على ثنية الحجون اليمنى‏.‏ وبعثت إليه أسماء في دفنه فأبى وكتب إليه عبد الملك يلومه على ذلك فخلى بينها وبينه‏.‏ ولما قتل عبد الله ركب أخوه عروة وسبق الحجاج إلى عبد الملك فرحب به وأجلسه على سريره وجرى ذكر عبد الله فقال عروة‏:‏ إنه كان فقال عبد الملك وما فعل‏.‏ قال قتل فخر ساجداً‏.‏ ثم أخبره عروة أن الحجاج صلبه فاستوهب جثته لأمه‏.‏ فقال نعم‏:‏ وكتب إلى الحجاج ينكر عليه صلبه فبعث بجثته إلى أمه وصلى عليه عروة ودفنه وماتت أمه بعده قريباً‏.‏ ولما فرغ الحجاج من ابن الزبير دخل إلى مكة فبايعه أهلها لعبد الملك وأمر بكنس المسجد من الحجارة والدم وسار إلى المدينة وكانت من عمله فأقام بها شهرين وأساء إلى أهلها وقال‏:‏ أنتم قتلة عثمان‏.‏ وختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافاً بهم كما يفعل بأهل الذمة‏.‏ منهم جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وسهل بن سعد‏.‏ ثم عاد إلى مكة ونقلت عنه في ذم المدينة أقوال قبيحة أمره فيها إلى الله وقيل إن ولاية الحجاج المدينة وما دخل منها كانت سنة أربع وسبعين وأن عبد الملك عزل عنها طارقاً واستعمله ثم هدم الحجاج بناء الكعبة الذي بناه ابن الزبير وأخرج الحجر منه وأعاده إلى البناء الذي أقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصدق بن الزبير في الحديث الذي رواه عن عائشة‏.‏ فلما صح عنده بعد ذلك قال وددت أني تركته وما تحمل‏.‏

  ولاية المهلب حرب الأزارقة

ولما عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة واستعمل مكانه أخاه بشر بر مروان وجمع له المصرين أمره أن يبعث المهلب إلى حرب الأزارقة فيمن ينتخبه من أهل البصرة ويتركه وراءه في الحرب وأن يبعث من أهل الكوفة رجلاً شريفاً معروفاً بالبأس والنجدة والتجربة في جيش كثيف إلى المهلب فيتبعوا الخوارج حتى يهلكوهم‏.‏ فأرسل المهلب جذيع بن سعيد بن قبيصة ينتخب الناس من الديوان‏.‏ وشق على بشر أن امرأة المهلب جاءت من عند عبد الملك فغص به ودعا عبد الرحمن بن مخنف فأعلمه منزلته عنده وقال‏:‏ إني أوليك جيش الكوفة بحرب الأزارقة فكن عند حسن ظني بك‏.‏ ثم أخذ يغريه بالمهلب وأن لا يقبل رأيه ولا مشورته فأظهر له الوفاق‏.‏ وسار إلى المهلب فنزلوا رامهرمز ولقي بها الخوارج فحدق عليه على ميل من المهلب حيث يتراءى العسكران‏.‏ ثم أتاهم نعي بشر بن مروان لعشر ليال من مقدمهم وأنه استخلف على البصرة خالد بن عبد الله بن خالد فافترق الناس من أهل المصرين إلى بلادهم ونزلوا الأهواز وكتب إليهم خالد بن عبد الله يتهدهم ويحذرهم عقوبة عبد الملك إن لم يرجعوا إلى المهلب فلم يلتفتوا إليه ومضوا إلى الكوفة واستأذنوا عمر بن حريث في الدخول ولم يأذن لهم فدخلوا وأضربوا عن إذنه‏.‏

  ولاية أسد بن عبد الله علي خراسان

ولما ولي بكير بن وشاح على خراسان اختلف عليه بطون تميم وأقاموا في العصبية له وعليه سنتين وخاف أهل خراسان أن تفسد البلاد ويقهرهم العدو فكتبوا إلى عبد الملك بذلك وأنها لا تصلح إلا على رجل من قريش‏.‏ واستشار أصحابه فقال له أمية بن عبيد الله بن خالد بن أسيد نزكيهم برجل منك‏.‏ فقال لولا انهزامك عن أبي فديك كنت لها‏.‏ فاعتذر وحلف أن الناس خذلوه ولم يجد مقاتلاً فانحزت بالعصبة التي بقيت من المسلمين عن الهلكة وقد كتب إليك خالد بن عبد الله بعذري وقد علمه الناس فولاه خراسان‏.‏ ولما سمع بكير بن وشاح بمسيره بعث إلى بجير بن ورقاء وهو في حبسه كما مر فأبى وأشار عليه بعض أصحابه أن يقبل مخافة القتل فقبل‏.‏ وصالح بكيراً وبعث إليه بكير بأربعين ألفاً على أن لا يقاتله‏.‏ فلما قارب أمية نيسابور سار إليه بجير وعرفه عن أمور خراسان وما يحسن به طاعة أهله‏.‏ وحذره غدر بكير‏.‏ وجاء معه إلى مرو فلم يعرض أمية لبكير ولا لعماله وعرض عليه شرطته فأبى‏.‏ وقال لا أحمل الجزية اليوم وقد كانت تحمل إلي بالأمس وأراد أن يوليه بعض النواحي من خراسان فحذره بجير منه‏.‏ ثم ولى أمية ابنه عبد الله على سجستان فنزل بستا وغزا رتبيل الذي ملك على الترك‏.‏ بعد المقتول الأول وكان هائباً للمسلمين فراسلهم في الصلح وبعث ألف ألف وبعث بهدايا ورقيق‏.‏ فأبى عبد الله من قبولها وطلب الزيادة فجلا رتبيل عن البلاد حتى أوغل فيها عبد الله‏.‏ ثم أخذ عليه الشعاب والمضايق حتى سأل منه الصلح وأن يخلي عينه عن المسلمين فشرط رتبيل عليه ثلثمائة ألف درهم والعهد بأن لا يغزو بلادهم‏.‏

  ولاية الحجاج العراق

ثم ولى عبد الملك الحجاج بن يوسف على الكوفة والبصرة سنة خمسة وسبعين وأرسل إليه وهو بالمدينة يأمره بالمسير إلى العراق فسار على النجب في اثني عشر راكباً حتى قدم الكوفة في شهر رمضان‏.‏ وقد كان بشر بعث المهلب إلى الخوارج فدخل المسجد وصعد المنبر وقال‏:‏ علي بالناس فظنوه من بعض الخوارج فهموا به حتى تناول عمير بن ضابي البرجمي الحصباء وأراد أن يحصبه فلما تكلم جعل الحصباء يسقط من يديه وهو لا يشعر به‏.‏ ثم حضر الناس فكشف الحجاج عن وجهه وخطب خطبته المعروفة‏.‏ ذكرها الناس وأحسن من أوردها المبرد في الكامل يتهدد فيها أهل الكوفة وبتوعدهم عن التخلف عن المهلب‏.‏ ثم نزل وحضر الناس عنده للعطاء واللحاق بالمهلب فقام إليه عمير بن ضابي وقال‏:‏ أنا شيخ كبير عليل وابني هذا أشد مني‏.‏ فقال هذا خير لنا منك‏.‏ قال ومن أنت قال‏:‏ عمير بن ضابي‏.‏ قال الذي غزا عثمان في داره قال‏:‏ نعم‏.‏ فقال يا عدو الله إلى عثمان بدلاً قال إنه حبس أبي وكان شيخاً كبيراً‏.‏ فقال‏:‏ إني لا أحب حياتك إن في قتلك صلاح المصرين وأمر به فقتل ونهب ماله‏.‏ وقيل إن عنبسة بن سعيد بن العاص هو الذي أغرى به الحجاج حين دخل عليه‏.‏ ثم أمر الحجاج مناديه فنادى ألا إن ابن ضابي تخلف بعد ثالثة من النداء فأمرنا بقتله وذمة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلب‏.‏ فتساءل الناس إلى المهلب وهو بدار هرمز وجاءه العرفاء فأخذوا كتبه بموافاة العسكر‏.‏ ثم بعث الحجاج على البصرة الحكم بن أيوب الثقفي وأمره أن يشتد على خالد بن عبد الله وبلغه الخبر فقسم في أهل البصرة ألف ألف وخرج عنها‏.‏ ويقال إن الحجاج أول من عاقب على التخلف عن البعوث بالقتل قال الشعي كان الرجل إذا أخل بوجهه الذي يكتب إليه زمن عمر وعثمان وعلي تنزع عمامته ويقام بين الناس فلما ولي مصعب أضاف إليه حلق الرؤوس و اللحى فلما ولي بشر أضاف إليه تعليق الرجل بمسمارين في يده في حائط فيخرق المسماران يده وربما مات‏.‏ فلما جاء الحجاج ترك ذلك كله وجعل عقوبة من تخلى بمكانه من الثغر أو البعث القتل‏.‏ ثم ولى الحجاج على السند سعيد بن أسلم بن زرعة فخرج عليه معاوية بن الحارث الكلابي العلاقي وأخوه فغلباه على البلاد وقتلاه‏.‏ فأرسل الحجاج مجاعة بن سعيد التميمي مكانه فغلب على الثغر وغزا وفتح فتوحات بمكران لسنة من ولايته‏.‏

  وقوع أهل البصرة بالحجاج

ثم خرج الحجاج من الكوفة واستخلف عليها عروة بن المغيرة بن شعبة وسار إلى البصرة وقدمها وخطب كما خطب بالكوفة وتوعد على القعود عن المهلب كما توعد فأتاه شريك بن عمرو السكري وكان به فتق فاعتذر به وبأن بشر بن مروان قبل عذره بذلك وأحضر عطاءه ليرد لبيت المال فضرب الحجاج عنقه وتتابع الناس مزدحمين إلى المهلب ثم سار حتى كان بينه وبين المهلب ثمانية عشر فرسخًا‏.‏ وأقام يشد ظهره وقال يا أهل المصرين هذا والله مكانكم حتى يهلك الله الخوارج‏.‏ ثم قطع لهم الزيادة التي زادها مصعب في الأعطية وكانت مائة مائة‏.‏ وقال‏:‏ لسنا نجيزها‏.‏ فقال عبد الله بن الجارود إنما هي زيادة عبد الملك وقد أجازها أخوه بشر بأمره فانتهره الحجاج فقال‏:‏ إني لك ناصح وإنه قول من ورائي فمكث الحجاج أشهراً لا يذكر الزيادة ثم أعاد القول فيها فرد عليه ابن الجارود مثل الرد الأول‏.‏ فقال له مضفلة بن كرب العبدي سمعاً وطاعة للأمير فيما أحببنا وكرهنا وليس لنا أن نرد عليه‏.‏ فانتهره ابن الجارود وشتمه وأتى الوجوه إلى عبد الله بن حكيم بن زياد المجاشعي وقالوا‏:‏ إن هذا الرجل مجمع على نقص هذه الزيادة وإنا نبايعك على إخراجه من العراق ونكتب إلى عبد الملك أن يولي علينا غيره وإلا خلعناه وهو يخافنا ما دامت الخوارج في العراق فبايعوه سراً وتعاهدوا وبلغ الحجاج أمرهم فاحتاط وجد‏.‏ ثم خرجوا في ربيع سنة ست وسبعين وركب عبد الله بن الجارود في عبد قيس على راياتهم ولم يبق مع الحجاج إلا خاصته وأهل بيته وبعث الحجاج يستدعيه فأفحش في القول لرسوله وصرح بخلع الحجاج فقال له الرسول‏:‏ تهلك قومك وعشيرتك‏.‏ وأبلغه تهديد الحجاج إياه فضرب وأخرج وقال لولا أنك رسول لقتلتك‏.‏ ثم زحف ابن الجارود في الناس حتى غشي فسطاطه فنهبوا ما فيه من المتاع وأخذوا زجاجته وانصرفوا عنها‏.‏ فكان رأيهم أن يخرجوه ولا يقتلوه‏.‏ وقال الغضبان بن أبي القبعثري الشيباني لابن الجارود‏:‏ لا ترجع عنه وحرضه على معالجته‏.‏ فقال إلى الغداة وكان مع الحجاج عثمان بن قطن وزياد بن عمر العتكي صاحب الشرطة بالبصرة فاستشارهما فأشار زياد بأن يستأمن القوم ويلحق بأمير المؤمنين‏.‏ وأشار عثمان بالثبات ولو كان دونه الموت‏.‏ وقال لا تخرج إلى أمير المؤمنين من العراق بعد أن رقاك إلى ما رقاك وفعلت ما فعلت بابن الزبير في الحجاز‏.‏ فقبل رأي عثمان وحقد على زياد في إشارته وجاءه عامر بن مسمع يقول‏:‏ قد أخذ لك الأمان من الناس فجعل الحجاج يغالطه رافعاً صوته عليه ليسمع الناس ويقول‏:‏ والله لا آمنهم حتى تؤتوني بالهذيل بن عمران وعند الله بن حكيم ثم أرسل إلى عبيد بن كعب الفهري أن ائتني فامنعني‏.‏ فقال له إن أتيتني منعتك فأبى وبعث إلى محمد بن عمير بن عطارد وعبد الله بن ثم إن عباد بن الحصين الجفطي مر بابن الجارود والهذيل وعبد الله بن حكيم يتناجون فطلب الدخول معهم فأبوا وغضب وسار إلى الحجاج وجاءه قتيبة بن مسلم في بني أعصر للحمية القتيبية‏.‏ ثم جاءه سبرة بن علي الكلابي وسعيد بن أسلم الكلابي وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدي فثابت إليه نفسه وعلم أنه قد امتنع‏.‏ وأرسل إليه مسمع بن مالك بن مسمع إن شئت أتيتك وإن شئت أقمت وثبطت عنك فأجابه أن أقم فلما أصبح إذا حوله ستة آلاف‏.‏ وقال ابن الجارود لعبد الله بن زياد بن ضبيان ما الرأي قال تركته أمس ولم يبق إلا الصبر‏.‏ ثم تراجعوا وعبى ابن الجارود وأصحابه على ميمنة الهذيل وعلى ميسرته سعيد بن أسلم وحمل ابن الجارود حتى حاصر أصحاب الحجاج وعطف الحجاج عليه فقارب بن الجارود أن يظفر‏.‏ ثم أصابه سهم غرب فوقع ميتاً‏.‏ ونادى منادي الحجاج بأمان الناس إلا الهذيل وابن الحكيم وأمر أن لا يتبع المنهزمين ولحق ابن ضبيان بعمارة فهلك هنالك‏.‏ وبعث الحجاج برأس ابن الجارود ورأس ثمانية عشر من أصحابه إلى الملك نصبت ليراها الخوارج ليتأسوا من الاختلاف وحبس الحجاج عبيد بن كعب محمد بن عمير لامتناعهما من الإتيان إليه وحبس ابن القبعثري لتحريضه عليه فأطلقه عبد الملك وكان فيمن قتل مع ابن الجارود عبد الله بن أنس بن مالك‏.‏ فقال الحجاج لا أرى أنساً يعين علي‏.‏ ودخل البصرة وأخذ ماله‏.‏ وجاءه أنس فأساء عليه وأفحش في شتمه وكتب أذس إلى عبد الملك يشكوه‏.‏ فكتب عبد الملك إلى الحجاج يشتمه ويغلظ عليه في التهديد على ما فعل بأنس وأن تجيء إلى منزله وتتنصل إليه وإلا نبعث من يضرب ظهرك ويهتك سترك‏.‏ قالوا‏:‏ وجعل الحجاج في قراءته يتغير ويرتعد وجبينه يرشح عرقاً‏.‏ ثم جاء إلى أنس بن مالك واعتذر إليه وفي عقب هذه الواقعة خرج الزنج بفرات البصرة وقد كانوا خرجوا قبل ذلك أيام مصعب ولم يكونوا بالكثير وأفسدوا الثمار و الزوع ثم جمع لهم خالد بن عبد الله فافترقوا قبل أن ينال منهم وقتل بعضهم وصلبه‏.‏ فلما كانت هذه الواقعة قدموا عليهم رجلاً منهم اسمه رياح ويلقب بشير زنجي أي أسد الزنج وأفسدوا‏.‏ فلما فرغ الحجاج من ابن الجارود أمر زياد ابن عمر صاحب الشرطة أن يبعث إليهم من يقاتلهم وبعث ابنه حفصاً في جيش فقتلوه وانهزم أصحاب فبعث جيشاً فهزم الزنج وأبادهم‏.‏

  مقتل ابن مخنف وحرب الخوارج

كان المهلب وعبد الرحمن بن مخنف واقفين للخوارج برامهرمز فلما أمدهم الحجاج بالعساكر من الكوفة والبصرة تأخر الخوارج من رامهرمز إلى كازرون وأتبعهم العساكر حتى نزلوا بهم وخندق المهلب على نفسه وقال ابن مخنف وأصحابه خدمنا سيوفنا فبيتهم الخوارج وأصابوا الغرة في ابن مخنف فقاتل هو وأصحابه حتى قتلوا هكذا حديث أهل البصرة‏.‏ وأما أهل الكوفة فذكروا أنهم لما ناهضوا الخوارج اشتد القتال بينهم ومال الخوارج على المهلب فاضطروه إلى معسكره وأمده عبد الرحمن بالخيل والرجال‏.‏ ولما رأى الخوارج مدده تركوا من يشغل المهلب وقصدوا عبد الرحمن فقاتلوه وانكشفوا عنه وصبر في سبعين من قومه فثابوا إلى عتاب بن ورقاء وقد أمره الحجاج أن يسمع للمهلب فثقل ذلك عليه فلم يحسن بينهما العشرة وكان يتراءف في الكلام وربما أغلظ له المهلب‏.‏ فأرسل عتاب إلى الحجاج يسأله القعود وكان حرب الخوارج وشبيب قد اتسع عليه فصادفا منه ذلك مرقعاً واستقدمه وأمره أن يترك العسكر مع المهلب فولى المهلب عليهم ابنه حبيباً وأقام يقاتلهم بنيسابور نحواً من سنة وتحركت الخوارج على الحجاج من لدن سنة ست وسبعين إلى سنة ثمان وشغل بحربهم وأول من خرج منهم صالح بن سرح من بني تميم‏.‏ بعث إليه العساكر فقتل فولوا عليهم شبيباً واتبعه كثير من بني شيبان وبعث إليهم الحجاج العساكر مع الحارث بن عميرة ثم مع سفيان الخثعمي ثم انحدر ابن سعيد فهزموها وأقبل شبيب إلى الكوفة فحاربهم الحجاج وامتنع ثم سرح عليه العساكر وبعث في أثرهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فهزموهم‏.‏ ثم بعث عتاب بن ورقاء وزهرة بن حوبة مدداً لهم فانهزموا وقتل عتاب وزهرة ثم قتل شبيب ضرب السكة الإسلامية كان عبد الملك كتب في صدر كتابه إلى الروم‏:‏ قل هو الله أحد وذكر النبي مع التاريخ فنكر ذلك ملك الروم وقال‏:‏ اتركوه وإلا ذكرنا نبيكم في دنانيرنا بما تكرهونه‏.‏ فعظم ذلك عليه واستشار الناس فأشار عليه خالد بن يزيد بضرب السكة وترك دنانيرهم ففعل‏:‏ ثم نقش الحجاج فيها قل هو الله أحد‏.‏ فكره الناس ذلك لأنه قد يمسها غير الطاهر ثم بالغ في تخليص الذهب والفضة من الغش‏.‏ وزاد ابن هبيرة أيام يزيد بن عبد الملك عليه‏.‏ ثم زاد خالد القسري عليهم في ذلك أيام هشام‏.‏ ثم أفرط يوسف بن عمر من بعدهم في المبالغة وامتحان العيار وضرب عليه فكانت الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني أمية‏.‏ ثم أمر المنصور أن لا يقبل في الخراج غيرها وسميت النقود الأولى مكروهة إما لعدم جودتها أو لما نقش عليها الحجاج وكرهه‏.‏ وكانت دراهم العجم مختلفة بالصغر والكبر فكان منها مثقال وزن عشرين قيراطاً واثني عشر وعشرة قراريط وهي أنصاف المثاقيل‏.‏ فجمعوا قراريط الأنصاف الثلاثة فكانت اثنين وأربعين فجعلوا ثلثها وهو اثنا عشر قيراطاً وزن الدرهم العربي فكانت كل عشرة دراهم تزن سبعة مثاقيل‏.‏ وقيل إن مصعب بن الزبير ضرب دراهم قليلة أيام أخيه عبد الله والأصح

  مقتل بكير بن وشاح بخراسان

قد تقدم لنا عزل بكير عن خراسان وولاية أمية بن عبيد الله بن خالد بن أسيد سنة أربع وسبعين وأن بكيراً أقام في سلطان أمية بخراسان وكان يكرمه ويدعوه لولاية ما شاء من أعمال خراسان فلا يجيب وأنه ولاه طخارستان وتجهز لها فيه بجير بن ورقاء فمنعه ثم أمره بالتجهز لغزو ما وراء النهر فحذره منه بجير فرده فغضب بكير‏.‏ ثم تجهز أمية لغزو غارا وموسى بن عبد الله بن حازم لترمذ واستخلف ابنه على خراسان‏.‏ لما أراد قطع النهر قال لبكير ارجع إلى مرو فاكفنيها فقد وليتكها وقم بأمر ابن حازم فإني أخشى أن لا يضبطها‏.‏ فانتخب من وثق به من أصحابه ورجع وأشار عليه صاحبه عتاب بأن يحرق السفن ويرجع إلى مرو فيخلع أمية ووافقه الأحنف بن عبد الله العنبر على ذلك‏.‏ فقال لهم بكير‏:‏ أخشى على من معي‏.‏ قالوا نأتيك من أهل مرو بمن تشاء قال يهلك المسلمون‏.‏ قال ناد في الناس برفع الخراج فيكونون معك‏.‏ قال فيهلك أمية وأصحابه‏.‏ قال لهم عدد وعدد يقاتلون عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين فأحرق بكير السفن ورجع إلى مرو فخلع أمية وحبس ابنه‏.‏ وبلغ الخبر أمية فصالح أهل الشام بخارى ورجع وأمر باتخاذ السفن وعبر وجاءه موسى بن عبد الله بن حازم من مدداً له وبعث شماس بن ورقاء في ثمانمائة في مقدمته فبيته بكير وهزمه فبعث مكانه ثابت بن عطية فهزمه‏.‏ ثم التقى أمية وبكير فاقتتلوا أياماً ثم انهزم بكير إلى مرو وحاصره أمية أياماً حتى سأل الصلح على ولاية ما شاء من خراسان وأن يقضي عنه أربعمائة ألف دينه ويصل أصحابه ولا يقبل فيه سعاية بجير فتم الصلح ودخل أمية مدينة مرو وأعاد بكيراً إلى ما كان عليه من الكرامة وأعطى عتاب العدابي عشرين ألفاً وعزل بجير عن شرطته بعطا بن أبي السائب‏.‏ وقيل إن بكيراً لم يصحب أمية إلى النهر وإنما استخلفه على مرو فلما عبر أمية النهر خلع وفعل ما فعل‏.‏ ثم إن بجيراً سعى بأمية بأن بكيراً دعاه إلى الخلاف وشهد عليه جماعة من أصحابه وأن معه ابني أخيه‏.‏ فقبض عليه أمية وقتله وقتل معه ابني أخيه وذلك سنة سبع وسبعين‏.‏ ثم عبر النهر لغزو بلخ فحصره الترك حتى جهد هو وعسكره وأشرفوا على الهلاك ثم نجوا ورجعوا إلى مرو‏.‏

  مقتل بجير بن زياد

ولما قتل بكير بسعاية بجير بن ورقاء تعاقد بنو سعد بن عوف من تميم وهم عشيرته على الطلب بدمه وخرج فتى منهم من البادية اسمه شمردل وقدم خراسان ووقف يوماً على بجير فطعنه فصرعه ولم يمت وقتل شمردل وجاء مكانه صعصعة بن حرب العوفي ومضى إلى سجستان وجاور قرابة بجير مدة‏.‏ وانتسب إلى حنفية ثم قال لهم إن لي بخراسان ميراثاً فاكتبوا إلى بجير يعينني فكتبوا له وجاء إليه وأخبره بنسبه وميراثه وأقام عنده شهراً يحضر باب المهلب وقد أنس به وأمن غائلته وجاء صعصعة يوماً وهو عند المهلب في قميص ورداء ودنا ليكلمه فطعنه ومات من الغد‏.‏ وقال صعصعة فمنعته مقاعس وقالوا أخذ بثأره فحمل المهلب دم صعصعة وجعل دم بجير ببكير‏.‏ وقيل إن المهلب بعثه إلى بجير فقتله والله أعلم وكان ذلك سنة إحدى وثمانين‏.‏

  ولاية الحجاج علي خراسان وسجستان

وفي سنة ثمان وسبعين عزل عبد الملك أمية بن عبد الله عن خراسان وسجستان وضمهما إلى الحجاج بن يوسف‏.‏ فبعث المهلب بن أبي صفرة على خراسان وقد كان فرغ من حرب الأزارقة فاستدعاه وأجلسه معه على السرير وأحسن إلى أهل البلاد من أصحابه وزادهم وبعث عبيد الله بن أبي بكرة على سجستان‏.‏ فأما المهلب فقدم ابنه حبيباً إلى خراسان فلم يعرض لأمية ولا لعماله حتى قدم أبوه المهلب بعد سنة من ولايته وسار في خمسة آلاف وقطع النهر الغربي وما وراء النهر وعلى مقدمته أبو الأدهم الرماني في ثلاثة آلاف فنزل على كش وجاءه ابن عمر الختن يستنجده على ابن عمه فبعث معه ابنه يزيد‏.‏ فبيت ابن العم عساكر الختن وقتل الملك وجاءه صر يريد قلعتهم حتى صالحوا بما رضي ورجع وبعث المهلب ابنه حبيباً في أربعة آلاف ووافى صاحب بخارى في أربعين ألفاً‏.‏ وكبس بعضهم جنده في قرية فقتلهم وأحرقها ورجع إلى أبيه‏.‏ وأقام المهلب يحاصر كش سنتين حتى صالحوه على فدية‏.‏ وأما عبد الله بن أبي بكرة فأقام بسجستان ورتبيل على صلحه يؤدي الخراج‏.‏ ثم امتنع فأمر الحجاج ابن أبي بكرة فغزوه واستباحوا بلاده فسار في أهل المصرين وعلى أهل الكوفة شريح بن هانىء من أصحاب علي فدخل بلاد رتبيل وتوغل فيها حتى كانوا على ثمانية عشر فرسخاً من مدينتهم وأثخن واستباح وخرب القرى والحصون‏.‏ ثم أخذ الترك عليهم القرى والشعاب حتى ظنوا الهلكة فصالحهم عبيد الله على الخروج من أرضهم على أن يعطيهم سبعمائة ألف درهم‏.‏ ونكر ذلك عليه شريح وأبى إلا القتال وحرض الناس ورجع‏.‏ وقتل حين قتل بناس من أصحابه ونجا الباقون وخرجوا من بلاد رتبيل ولقيهم الناس بالأطعمة فكانوا يموتون إذا شبعوا‏.‏ فجعلوا يطعمونهم السمن قليلاً قليلاً حتى استمروا وكتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في غزو بلاد رتبيل فأذن له فجهز عشرين ألف فارس من الكوفة وعشرين ألفاً من البصرة واختار أهل الغنى والشجاعة وأزاح عللهم وأنفق فيهم ألفي ألف سوي أعطياتهم وأخذهم بالخيل الرائعة والسلاح الكامل‏.‏ وبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وكان يبغضه ويقول أريد قتله‏.‏ ويخبر الشعبي بذلك عبد الرحمن فيقول أنا أزيله عن سلطانه فلما بعثه على ذلك الجيش تنصح أخوه إسماعيل للحجاج وقال‏:‏ لا تبعثه فإني أخشى خلافه‏.‏ فقال هو أهيب لي من أن يخالف أمري‏.‏ وسار عبد الرحمن في الجيش وقدم سجستان واستنفرهم وحذر العقوبة لمن يتعدى‏.‏ وساروا جميعاً إلى بلاد رتبيل وبذل الخراج فلم يقبل منا ودخل بلاده فحواها شيئاً فشيئاً‏.‏ وبعث عماله عليها ورجع المصالح بالنواحي والأرصاد على العقاب والشعاب وامتلأت أيدي الناس من الغنائم ومنع من التوغل في البلاد إلى قابل وقد قيل في بعث عبد الرحمن بن الأشعث غير هذا‏.‏ وهو أن الحجاج كان قد أنزل هميان بن عدي السدي مسلحة بكرمان أن احتاج إليه عامل السند وسجستان فمضى هميان فبعث الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث فهزمه وقام بموضعه‏.‏ ثم مات عبد الله بن أبي بكرة فولاه الحجاج مكانه وجهز إليه هذا الجيش وكان يسمى جيش الطواويس لحسن زيهم‏.‏ ولما وصل كتاب ابن الأشعث إلى الحجاج كتب إليه يوبخه على القعود عن التوغل ويأمره بالمضي لما أمره به من هدم حصونهم وقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم‏.‏ وأعاد عليه الكتاب بذلف ثانياً وثالثاً وقال له إن مضيت وإلا فأخوك إسحق أمير الناس‏.‏ فجمع عبد الرحمن الناس ورد الرأي عليهم وقال‏:‏ قد كنا عزمنا جميعاً على ترك التوغل في بلد العدو ورأينا رأياً وكتبت بذلك إلى الحجاج وهذا كتابه يستعجزني ويستضعفني ويأمرني بالتوغل بكم وأنا رجل منكم فثار الناس وقالوا لا نسمع ولا نطيع الحجاج‏.‏ وقال أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني‏:‏ اخلعوا عدو الله الحجاج وبايعوا الأمير عبد الرحمن فتنادى الناس من كل جانب‏:‏ فعلنا فعلنا‏.‏ وقال عبد المؤمن بن شيث بن ربعي‏:‏ انصرفوا إلى عدو الله الحجاج فانفوه عن بلادكم ووثب الناس إلى عبد الرحمن على خلع الحجاج ونفيه من العراق وعلى النصرة له ولم يذكر عبد الملك‏.‏ وصالح عبد الرحمن رتبيل على أنه إن ظهر فلا خراج على رتبيل ما بقي من الدهر وإن هزم منعه بمن يريده‏.‏ وجعل عبد الرحمن على سبت عياض بن هميان الشيباني وعلى رومج عبد الله بن عامر التميمي وعلى كرمان حرثة بن عمر التميمي‏.‏ ثم سار إلى العراق في جموعه وأعشى همدان بين يديه يجري بمدحه وذم الحجاج وعلى مقدمته عطية بن عمير العيرني‏.‏ ولما بلغ فارس بدا للناس في أمر عبد الملك وقالوا إذا خلعنا الحجاج فقد خلعناه فخلعه الناس وكتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره ويستمده وكتب المهلب إلى الحجاج بأن لا يعترض أهل العراق حتى يسقطوا إلى أهليهم فنكر كتابه واتهمه وجند عبد الملك الجند إلى الحجاج فساروا إليه متتابعين وسار الحجاج من البصرة فنزل تستر وبعث مقدمة خيل فهزمهم أصحاب عبد الرحمن بعد قتال شديد وقتل منهم جمعاً كثيراً وذلك في أضحى إحدى وثمانين وأجفل الحجاج إلى البصرة ثم تأخر عنها إلى الغاوية وراجع كتاب المهلب فعلم نصيحته ودخل عبد الرحمن البصرة فبايعه أهلها وسائر نواحيها لأن الحجاج كان اشتد على الناس في الخراج وأمر من دخل الأمصار أن يرجع إلى القرى يستوفي الجزية فنكر ذلك الناس وجعل أهل القرى يبكون منه فلما قدم عبد الرحمن بايعوه على حرب الحجاج وخلع عبد الملك‏.‏ ثم اشتد القتال بينهم في المحرم سنة اثنتين وثمانين وتزاحفوا على حرب الحجاج وخلع عبد الملك‏.‏ وانهزم أهل العراق وقصدوا الكوفة وانهزم منهم خلق كثير‏.‏ وفشا القتل في القرى فقتل منهم عقبة بن عبد الغافر الأزدي في جماعة استلحموا معه وقتل الحجاج بعد الهزيمة منهم عشرة آلاف وكان هذا اليوم يسمى يوم الراوية‏.‏ واجتمع من بقي بالبصرة على عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وبايعوه فقاتل بهم الحجاج خمس ليال ثم لحق بابن الأشعث بالكوفة ربيعة طائفة من أهل البصرة‏.‏ ولما جاء عبد الرحمن الكوفة وخليفة الحجاج عليها عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله الحضرمي وثب به مطر بن ناجية من ابني تميم مع أهل الكوفة فاستولى على القصر وأخرجه‏.‏ فلما وصل ابن الأشعث لقيه أهل الكوفة واحتف به همدان‏.‏ وجاء إلى القصر فمنعه مطر فصعد الناس القصر وأخذوه فحبسه عبد الرحمن وملك الكوفة‏.‏ ثم إن الحجاج استعمل على البصرة الحكم بن أيوب الثقفي ورجع إلى الكوفة فنزل دوير فيرة ونزل عبد الرحمن دير الجماجم واجتمع إلى كل واحد أمداده وخندق على نفسه‏.‏وبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمداً في جند كثيف وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق عزل الحجاج ويجري عليهم أعطياتهم كأهل الشام وينزل عبد الرحمن إلى أي بلد شاء عاملاً لعبد الملك‏.‏ فوجم الحجاج لذلك وكتب إلى عبد الملك أن هذا مما يزيدهم جراءة وذكره بقضية عثمان وسعيد بن العاص فأبى عبد الملك من رأيه وعرض عبد الله ومحمد بن مروان ما جاء به عبد الملك وتشاور أهل العراق بينهم وأشار عليهم عبد الرحمن بقبول ذلك وأن العزة لهم على عبد الملك لا تزول فتواثبوا من كل جانب منكرين لذلك ومجددين الخلع‏.‏ وتقدمهم في ذلك عبد الله بن دواب السلمي وعمير بن تيحان ثم برزوا للقتال‏.‏ وجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكلبي وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي وعلى الخيل سفيان بن الأبرد الكلبي وعلى الرجالة عبد الله بن حبيب الحكمي‏.‏ وجعل عبد الرحمن على ميمنته الحجاج بن حارثة الخثعمي وعلى ميسرته الأبرد بن قرة التميمي وعلى خيله عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وعلى رجالته محمد بن سعد بن أبي وقاص وعلى مجنبته عبد الله بن رزم الحرشي وعلى القرى جبلة بن زخر بن قيس الجعفي‏.‏ وفيهم سعيد بن جبير وعامر الشعبي وأبو البختري الطائي وعبد الرحمن بن أبي ليلى‏.‏ ثم أقاموا يتزاحفون كل يوم ويقتتلون بقية سنتهم وكتيبة القرى معروفة بالصبر يحملون عليها فلا تنتقص‏.‏ فعبى الحجاج ثلاث كتائب مع الجراح بن عبد الله الحكمي وحملوا على القرى ثلاث حملات وجبلة يحرض القرى ويبيتهم والشعبي وسعيد بن جبير كذلك‏.‏ ثم حملوا على الكتائب ففرقوها وأزالوها عن مكانها وتأخر جبلة عنهم ليكون لهم فئة يرجعون إليه وأبصره الوليد بن نجيب الكلبي فقصده في جماعة من أهل الشام وقتله وجيء برأسه إلى الحجاج وقدموا عليهم مكانه وظهر القتل في القرى‏.‏ ثم اقتتلوا بعد ذلك ما يزيد على مائة يوم كثر فيها القتلى والمبارزة‏.‏ ثم اقتتلوا يوماً في منتصف جمادى الآخرة وحمل سفيان بن الأبرد في ميمنة الحجاج على ميسرة عبد الرحمن فانهزم الأبرد بن قرة من غير قتال فتقوضت صفوف الميمنة وركبهم أصحاب الحجاج ثم انهزم عبد الرحمن وأصحابه‏.‏ ومضى الحجاج إلى الكوفة ومحمد بن مروان إلى الموصل وعبد الله وأخذ الحجاج الناس على أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر وقتل من أبى ذلك‏.‏ودعا بكميل بن زياد صاحب علي فقتله لاقتصاصه ثم أقام بالكوفة شهراً وأنزل أهل الشام في بيوت أهل الكوفة ولحق ابن الأشعث بالبصرة فاجتمع إليه جموع المنهزمين ومعه عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة ولحق به محمد بن سعد بن أبي وقاص بالمدائن وسار نحو الحجاج ومعه بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني كان قدم عليه قبل الهزيمة من الري وكان انتقض بها ثم غلب عليها ولحق بعبد الرحمن فكان معه‏.‏ وبايع عبد الرحمن خلق كثير على الموت ونزل مسكن وخندق عليه وعلى أصحابه والحجاج قبالتهم وقاتلهم خالد بن جرير بن عبد الله‏.‏ وكان قدم من خراسان في بعث الكوفة فقاتلهم خمسة عشر يوماً من شعبان أشد قتال وقتل زياد بن غنيم القيني‏.‏ وكان علي صالح الحجاج فهد منهم ثم أبى بكر القتال‏.‏ وحمل بسطام بن مصقلة هبيرة في أربعة آلاف من فرسان الكوفة والبصرة كسروا جفون سيوفهم وحملوا على أهل الشام فكشفوهم مراراً وأحاط بهم الرماة ولحقوا فقتلوا‏.‏ وحمل عبد الملك بن المهلب على أصحاب عبد الرحمن فكشفوهم‏.‏ ثم حمل أصحاب الحجاج من كل جانب فانهزم عبد الرحمن وأصحابه وقتل عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه وأبو البختري الطائي ومعلى بن الأشعث نحو سجستان‏.‏ ويقال إن بعض الأعراب جاء إلى الحجاج فدله على طريق من وراء معسكر ابن الأشعث فبعث معه أربعة آلاف جاؤوا من ورائه وأصبح الحجاج فقاتله واستطرد له حتى نهب معسكره‏.‏ وأقبلت السرية من الليل إلى معسكر ابن الأشعث وكان الغرقى منهم أكثر من القتلى وجاء الحجاج إلى المعسكر فقتل من وجد فيه وكان عدة القتلى أربعة آلاف‏:‏ منهم عبد الله بن شداد بن الهادي وبسطام بن مصقلة وعمر بن ربيعة الرقاشي وبشر بن المنذر بن الجارود وغيرهم‏.‏ ولما سار ابن الأشعث إلى سجستان أتبعه الحجاج بالعساكر وعليهم عمارة بن تميم اللخمي ومعهم محمد بن الحجاج فأدركوه بالسوس فقاتلوه وانهزم إلى سابور واجتمع إليه الأكراد وقاتلوا العساكر قتالاً شديداً فهزم وخرج عمارة ولحق ابن الأشعث بكرمان فلقيه عامله بها وهيأ له النزول فنزل‏.‏ ثم رحل إلى زرنج فمنعه عامله من الدخول فحاصرها أياماً ثم سار إلى بست وعليها من قبله عياض بن هميان بن هشام السلوبي الشيباني ثم استغفله فأوثقه‏.‏ وكان رتبيل ملك الترك قد سار ليستقبله ونزل على بست وتهدد عياضاً فأطلقه وحمل رتبيل إلى بلاده وأنزله عنده‏.‏ واجتمع المنهزمون فاتفقوا على قصد خراسان لينموا بعشائرهم وقصدوا للصلاة عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث وكتبوا إلى عبد الرحمن بن الأشعث يستقدمونه فقدم عليهم وثناهم عن قصد خراسان مخافة من سطوة يزيد بن المهلب وأن يجتمع أهل الشام وأهل خراسان فأبوا وقالوا بل يكثر بها تابعنا‏.‏ فسار معهم إلى هراة فهرب عنهم عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة فخشي الانتقاض وقال‏:‏ إنما أتيتكم وأمركم جميعاً‏.‏ وأنا الآن منصرف إلى صاحبي الذي جئت من عنده يعني رتبيل‏.‏ ورجع عنهم في قليل‏.‏ وبقي معظم العسكر مع عبد الرحمن بن العباس بسجستان فجمع بابن الأشعث وسار إلى خراسان في عشرين ألفاً ونزل هراة ولقوا الرقاد فقتلوه‏.‏ وبعث إليه يزيد بن المهلب بالرحلة من البلاد فقال إنما نزلنا لنستريح ونرتحل‏.‏ثم أخذ في الجباية وسار نحوه يزيد بن المهلب والتقوا فافترق أصحاب عبد الرحمن عنه وصبرت معه طائفة ثم انهزموا وأمر يزيد بالكف عنهم وغنم ما في عسكرهم وأسر جماعة منهم فيهم محمد بن سعد بن أبي وقاص وعمر بن موسى بن عبد الله بن معمر وعباس بن الأسود بن عوف والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة وفيروز وأبو لعلج مولى عبيد الله بن معمر وسوار بن مروان وعبد الله بن طلحة الطلحات وعبد الله بن فضالة الزهراني الأزدي‏.‏ ولحق عبد الرحمن بن العباس بالسند وأتى ابن سمرة إلى مرو وانصرف يزيد إلى مرو‏.‏ وبعث بالأسرى إلى الحجاج مع سيدة بن نجدة‏:‏ قال له أخوه حبيب‏:‏ ألا تبعث عبد الرحمن بن طلحة فإن له عندنا يدين وقد ودى عن المهلب أبو طلحة مائة ألف فتركه وترك عبد الله بن فضالة لأنه من الأزد‏.‏ وبعث الباقين وقدموا عليه بمكان واسط قبل بنائها فدعا بفيروز وقال‏:‏ ما أخرجك مع هؤلاء وليس بينك وبينهم نسب‏.‏ قال فتنة عمت الناس قال اكتب أموالك فكتب ألفي ألف وأكثر‏.‏ فقال للحجاج وأنا آمن على دمي قال لا والله لتؤدينها ثم أقتلك‏.‏ قال لا تجمع مالي ولحمي وأمر به فنحي‏.‏ ثم أحضر محمد بن سعد بن أبي وقاص فوبخه طويلاً ثم أمر به فقتل ثم عاد بعمر موسى فوبخه ولاطفه في العذر فلم يقبل ثم أمر به فقتل‏.‏ ثم أحضر الهلقام بن نعيم فوبخه‏.‏ وقال‏:‏ ابن الأشعث طلب الممالك فما الذي طلبت أنت‏.‏ قال أن توليني العراق مكانك فأمر به فقتل‏.‏ ثم أحضر عبد الله بن عامر فعذله في عبد الله بن يزيد بن المهلب لأنه أطلق قومه من الأسر وقاد نحوه مطراً فأطرق الحجاج ثم قال‏:‏ ما أنت وذاك ثم أمر به فقتل فلم يزل في نفسه من يزيد حتى عزله‏.‏ ثم أمر بفيروز فعذب ولما أحس بالموت قال أظهروني للناس ليردوا علي ودائعي فلما ظهر نادى من كان لي عنده شيء فهو في حل فأمر به فقتل وأمر بقتل عمر بن فهر الكندي وكان شريفاً وأحضر أعشى همدان واستنشده قصيدته بين الأثلج وبين قيس وفيها تحريض ابن الأشعث وأصحابه فقال‏:‏ ليست هذه وإنما التي بين الأثلج وبين قيس بارق على روي الدال وسأل الحجاج عن الشعبي فقال له يزيد بن أبي مسلم أنه لحق بالري فكتب إلى قتيبة بن مسلم وهو عامله على الري بإرسال الشعبي‏.‏ فقدم على الحجاج سنة ثلاث وثمانين وكان ابن أبي مسلم له صديقاً فأشار عليه بحسن الاعتذار‏.‏ فلما دخل على الحجاج سلم عليه بالإمرة وقال‏:‏ وايم الله لا أقول إلا الحق قد والله حرضنا وجهدنا فما كنا أقوياء فجرة ولا أتقياء بررة وقد نصرك الله وظفرت فإن سطوت فبذنوبنا وإن عفوت فبحلمك والحجة لك علينا‏.‏ فقال الحجاج هذا والله أحب إلي ممن يقول ما شهدت ولا فعلت وسيفه يقطر من دمائنا‏.‏ ثم أمنه وانصرف‏.‏ ولما ظفر الحجاج بابن الأشعث وهزمه لحق كثير من المنهزمين بعمر بن الصلت وقد كان غلب على الري في تلك الفتنة‏.‏ فلما اجتمعوا أرادوا أن يحظوا عند الحجاج ويمحوا عن أنفسهم ذنب الجماجم فأشاروا على عمر بخلع الحجاج فامتنع فدسوا عليه أباه فأجاب‏.‏ ولما سار قتيبة إلى الري خرجوا مع عمر لقتاله ثم غدروا به فانهزم ولحق بطبرستان وأقره الأصبهبد وأحسن إليه وأرادوا الوثوب على الأصبهبد فشاور أباه وقال‏:‏ قد علمت الأعاجم أني أشرف منه فمنعه أبوه ودخل قتيبة الري وكتب الحجاج إلى الأصبهبد أن يبعث بهم أو برؤوسهم ففعل ذلك‏.‏ ولما انصرف عبد الرحمن بن الأشعث من هراة إلى رتبيل قال له علقمة بن عمر الأزدي لا أدخل معك دار الحرب لأن رتبيل إن دخل إليه الحجاج فيك وفي أصحابك قتلكم أو أسلمكم إليه ونحن خمسمائة وقد تبايعنا على أن نتحصن بمدينة حتى نأمن أو نموت كراماً وقدم عليهم مودود البصري وزحف إليهم عمارة بن تميم اللخمي وحاصرهم حتى استأمنوا فخرجوا إليه وقلاهم وتتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل في عبد الرحمن يرهبه ويرغبه‏.‏ وكان عبيد بن سميع التميمي من أصحاب ابن الأشعث وكان رسوله إلى رتبيل أولا فأنس به رتبيل وزحف عليه وأغرى القاسم بن الأشعث أخاه عبد الرحمن بقتله فخافه وزين لرتبيل أخذ العهد من الحجاج وإسلام عبد الرحمن إليه على أن يكف عن أرضه سبع سنين فأجابه رتبيل وخرج إلى عمارة سراً‏.‏ وكتب عمارة إلى الحجاج بذلك فأجاب وكتب له بالكف عنه عشر سنين وبعث إليه رتبيل برأس عبد الرحمن وقيل مات بالسل فقطع رأسه وبعث به وقيل أرسله مقيدًا مع ثلاثين من أهل بيته إلى عمارة فألقى عبد الرحمن نفسه من سطح القصر فمات فبعث عمارة برأسه وذلك سنة أربع أو خمس وثمانين‏.‏ قد كنا قدمنا حصار المهلب مدينة كش من وراء النهر فأقام عليها سنتين وكان استخلف على خراسان ابنه المغيرة فمات سنة اثنتين وثمانين فجزع عليه وبعث ابنه يزيد إلى مرو ومكنه في سبعين فارساً ولقيهم في مفازة نسف جمع من الترك يقاربون الخمسمائة فقاتلوهم قتالاً شديداً يطلبون ما في أيديهم والمغيرة يمتنع حتى أعطى بعض أصحابه لبعضهم شيئاً من المتاع والسلاح ولحقوا بهم ولحق يزيد بمرو‏.‏ ثم سأل أهل كش من المهلب الصلح على مال يعطونه فاسترهن منهم رهناً من أبنائهم في ذلك وانفتل المهلب وخلف حريث بن قطنة مولى خزاعة ليأخذ الفدية ويرد الرهن فلما صار ببلخ كتب إليه لا تخل الرهن وإن قبضت الفدية حتى تقدم أرض بلخ لئلا يغيروا عليك‏.‏ فأقرأ صاحب كش كتابه وقال‏:‏ إن عجلت أعطيتك الرهن وأقول له جاء الكتاب بعد إعطائه‏.‏ فعجل صاحب كش بالفدية وأخذ الرهن وعرض له الترك كما عرضوا ليزيد وقاتلهم فقتلهم وأسر منهم أسرى ففدوهم فرداً فرداً وأطلقهم‏.‏ ولما وصل إلى المهلب ضربه ثلاثين سوطاً عقوبة على مخالفة كتابه في الرهن‏.‏ فحلف حريث أن ابن قطنة ليقتلن المهلب وخاف ثابتاً إن كان ذلك المسير إليه‏.‏ فبعث إليه المهلب أخاه ثابت بن قطنة يلاطفه فأبى وحلف ليقتلن المهلب وخاف ثابت إن كان ذلك أن يقتلوا جميعًا فأشار عليه باللحاق بموسى بن عبد الله بن حازم فلحق به في ثلاثمائة من أصحابهما‏.‏ ثم هلك المهلب واستخلف ابنه يزيد وأوصى ابنه حبيباً بالصلاة وأوصى ولده جميعاً بالاجتماع والإلفة ثم قال‏:‏ أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم فإنها تنسىء في الأجل وتثري المال وتكثر العدد وأنهاكم عن القطيعة فإنها تعقب النار والذلة والقلة وعليكم بالطاعة والجماعة ولتكن فعالكم أفضل من مقالكم‏.‏ واتقوا الجواب وزلة اللسان فإن الرجل تزل قدمه فينعش ويزل لسانه فيهلك واعرفوا لمن يغشاكم حقه فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له‏.‏ وآثروا الجود على البخل وأحبوا العرف واصنعوا المعروف فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت فكيف بالصنيعة عنده‏.‏ وعليكم في الحرب بالتؤدة والمكيدة فإنها أنفع من الشجاعة وإذا كان اللقاء نزل القضاء وإن أخذ الرجل بالحزم فظفر قيل أتى الأمر من وجهه فظفر وإن لم يظفر قيل ما فرط ولا ضيع ولكن القضاء غالب‏.‏ وعليكم بقراءة القرآن وتعلم السنن وآداب الصالحين وإياكم وكثرة الكلام في مجالسكم‏.‏ ثم مات وذلك سنة اثنتين وثمانين‏.‏ ويقال إنه لما حثهم على الإلفة والاجتماع أحضر سهاماً محزومة فقال أتكسرون هذه مجتمعة قالوا لا‏.‏ قال فتكسرونها متفرقة قالوا نعم‏.‏ قال فهكذا الجماعة‏.‏ واستولى يزيد على خراسان بعد أبيه وكتب له الحجاج بالعهد عليها‏.‏ ثم وضع العيون على بيزك حتى بلغه خروجه عن قلعته فسار إليها وحاصرها ففتحها وغنم ما كان فيها من الأموال والذخائر وكانت من أحصن القلاع‏.‏ وكان بيزك إذا أشرف عليها يسجد لها‏.‏ ولما فتحها كتب إلى الحجاج بالفتح وكان كاتبه يعمر العدواني حليف هذيل فكتب‏:‏ إنا لقينا العدو فمنحنا الله أكنافهم فقتلنا طائفة وأسرنا طائفة ولحقت طائفة برؤوس الجبال ومهامه الأودية وأهضام الغيطان وأفناء الأنهار‏.‏ فقال الحجاج‏:‏ من يكتب ليزيد قيل يحيى بن يعمر‏:‏ فكتب بحمله على البريد‏.‏ فلما جاءه قال أين ولدت قال بالأهواز‏.‏ قال فمن أين هذه الفصاحة قال حفظت من أولاد أبي وكان فصيحاً‏.‏ قال يلحن عنبسة بن سعيد قال نعم كثيراً قال فضلان قال نعم قال فأنا قال تلحن خفيفاً تجعل أن موضع إن وإن موضع أن‏.‏ قال أجلتك ثلاثاً وإن وجدتك بأرض العراق قتلتك فرجع إلى خراسان‏.‏ بناء الحجاج مدينة واسط كان الحجاج ينزل أهل الشام على أهل الكوفة فضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان سنة ثلاث وثمانين وعسكروا قريباً من الكوفة حتى يستتموا ورجع منهم ذات ليلة فتى حديث عهد بعرس بابنة عمه فطرق بيته ودق الباب فلم يفتح له إلا بعد هنيهة وإذا سكران من أهل الشام فشكت إليه ابنة عمه مراودته إياها فقال لها ائذني له فأذنت له وجاء فقتله الفتى وخرج إلى العسكر‏.‏ وقال ابعثي إلى الشاميين وارفعي إليهم صاحبهم فأحضروها عند الحجاج فأخبرته‏.‏ فقال صدقت وقال للشاميين لا قود له ولا عقل فإنه قتيل الله إلى النار‏.‏ ثم نادى مناديه لا ينزل أحد على أحد وبعث الرواد فارتادوا له مكان واسط ووجد هناك راهباً ينظف بقبعته من النجاسات فقال‏:‏ ما هذه قال نجد في كتبنا أنه ينشأ ههنا مسجد للعبادة‏.‏ فاختط الحجاج مدينة واسط هنالك وبنى المسجد في تلك البقعة‏.‏ عزل يزيد عن خراسان يقال إن الحجاج وفد إلى عبد الملك ومر في طريقه براهب قيل له إن عنده علماً من الحدثان فقال‏:‏ هل تجدون في كتابكم ما أنتم فيه‏.‏ قال نعم‏:‏ فقال مسمى أو موصوفاً قال موصوفاً‏.‏ قال‏:‏ فما تجدون صفة ملكنا قال صفته كذا‏.‏ قال ثم من‏.‏ قال آخر اسمه الوليد‏.‏ قال ثم من قال آخر اسمه ثقفي‏.‏ قال فمن تجد بعدي‏.‏ قال رجل يدعى يزيد‏.‏ قال أتعرف صفته قال لا أعرف صفته إلا أن يغدر غدرة‏.‏ فوقع في نفس الحجاج أنه يزيد بن المهلب ووجل منه وقدم على عبد الملك‏.‏ ثم عاد إلى خراسان وكتب إلى عبد الملك يذم يزيد وآل المهلب وأنهم زبيرية فكتب إليه أن وفاءهم لآل الزيبر يدعوهم إلى الوفاء لي‏.‏ فكتب إليه الحجاج يخوفه غدرهم وما يقول الراهب‏.‏ فكتب إليه عبد الملك أنك أكثرت في يزيد فانظر من تولي مكانه‏.‏ فسمى له قتيبة بن مسلم فكتب له أن يوليه‏.‏وكره الحجاج أن يكاتبه بالعزل فاستقدمه وأمره أن يستخلف أخاه المفضل واستشار يزيد حصين بن المنذر الرقاشي فقال له‏:‏ أقم واعتل وكاتب عبد الملك فإنه حسن الرأي فيك‏.‏ نحن أهل بيت بورك لنا في الطاعة وأنا أكره الخلاف وأخذ يتجهز وأبطأ‏.‏ فكتب الحجاج إلى المفضل بولاية خراسان واستلحاق يزيد‏.‏ فقال إنه لا يضرك بعدي وإنما ولاك مخافة أن أمتنع‏.‏ وخرج يزيد في ربيع سنة خمس وثمانين‏.‏ ثم عزل المفضل لتسعة أشهر من ولايته وولى قتيبة بن مسلم‏.‏ وقيل سبب عزل اليزيد أن الحجاج أذل العراق كلهم إلا آل المهلب وكان يستقدم يزيد فيعتل عليه بالعدا والحروب‏.‏ وقيل كتب إليه أن يغزو خوارزم فاعتذر إليه بأنها قليلة السلب شديدة الكلف‏.‏ ثم استقدمه بعد ذلك فقال إلى أن أغزو خوارزم‏.‏ فكتب الحجاج لا تغزها فغزاها وأصاب سبياً وصالحه أهلها وانفتل في الشتاء‏.‏ وأصاب الناس البرد فتدثروا بلباس الأسرى فبقوا عراياً وقتلهم المفضل‏.‏ ولما ولي المفضل خراسان غزا باذغيس ففتحها وأصاب مغنماً فقسمه ثم غزا شومان فغنم وقسم ما أصابه‏.‏